غروب النفس

موضوع: غروب النفس الأربعاء نوفمبر 04, 2009 8:20 pm

الغروب تعانق الأرض والسماء ,
لقاء ووداع ، سعادة وكآبة !

السيارة تتقدم باتجاه التلة العالية ، الأطفال يتدافعون ويتصايحون فرحين وهم يعرّضون وجوههم للهواء الذي يهب بقوة من نوافذ السيارة .
وهو ينظر أمامه ليختار الموقع المناسب للنزول ، الزوجة تشير إلى مُتسع من الأرض بجانب الطريق للوقوف فيه ، فيُطاوعها ويركن سيارته .

يُلاحظون امرأة عجوزاً تجلس تحت شجرة سرو ضخمة مُحاذية للطريق وتسند ظهرها إلى الساق البنُنيّ الخشن ،
الزمن قد رسم بريشته خطوطاً عميقة على وجهها المُغضّن ،
الأيام قد برت جسمها حتى أحالته إلى عود نحيل مُتشج بثوب أسود باهت .
الحياة الشقية جعلت بشرة يديها خشنة مُتشققة يابسة لا يظهر عليها بهاء الحياة ورُواؤها , العينان غائرتان في وجهها وقد استحالتا ضيقتين تنظر من خلال فتحة ضغيرة فيهما , وكأنها تريد إغماضهما إلى الأبد لتستريح من العناء المتواصل ,.

لمحتهم بطرف عينها ، استغربت حضورهم في مثل هذا الوقت وظهر الامتعاض على وجهها وهي تلتفت بعيداً عنهم ، وكأنها اختارت هذا الموقع المُتطرّف لتبقى وحيدة بعيدة مُنفردة .
لم تطلب منهم شيئاً ، ولم تعرهم كبير انتباه ، واستمرت بالنظر بعيداً وكأنهم غير موجودين ، اقترح الأب على العائلة أن يعطوها شيئاً من الطعام وقليلاً من القروش ، هزّ الجميع رؤوسهم مشفقين وطيعين ،
فقام الأب فرحاً بوضع ما يحمل أمامها بلطف ، فهزّت رأسها بعينين مُغمضتين زاهدة غير راغبة ولم يظهر عليها شيء من السرور ، وبدا لهم أنها اعتادت على الحزن والشفاء ، ولم تعد تعرف السرور والسعادة ، فقد تشبع هذا المساء ، ولكنها قد تجوع غداً ..!!
الشعور بالخطر القادم يمنع الإنسان من الاستمتاع باللحظة الحاضرة !!

تركوها واتجهوا على أقدامهم إلى قمّة التلة يُسابقون الشمس قبل غيابها ، وهم يحاذرون من الأشواك والحجارة المبثوثة على امتداد المكان ، تلفت أنظارهم أشجار الصنوبر المُعمّرة بضخامتها وصوت الهواء وهو يتخللها ويحرّك أغصانها ويهزها كاملة بشيء من الوقار ،
يصلون إلى القمة ، فيهب عليهم الهواء من كل مكان ويكاد يسرق ملابسهم ، فيتمسّك الأطفال بعضهم ببعض خوفاً من الطيران والابتعاد ، ويشعون بالجوع فجأة ويطلبون الطعام فتقوم الزوجة بتقسيم الشطائر عليهم ، ثم يلتفت الجميع باتجاه الغرب ، وهو يّتابعون غروب الشمس ووداعها الأخير للأرض ، ويبحثون عن الهلال المُؤذن ببداية شهر رمضان المبارك ...

شدّهم المنظر الجميل المرسوم بإتقان في جهة الغرب ، التقاء الأرض والسماء في الأفق ، والشفق الأحمر المُتدرّج الألوان يُزيّن المكان ، أشعة الشمس الذهبية الضعيفة وهي تنسحب بحياء وتستعد للشروق العظيم في اليوم التالي ، جبال من الغيوم في الأعلى تشكل مناظر جميلة وأخرى مُرعبة مخيفة ،
التلال الهائلة التي تختئ الشمس بألوانها الرمادية الداكنة ، أنوار البيوت البشرية البعيدة بدأت كنقاط واهية تنوس وتلمع ,..

غطست الشمس وبدا كساء الليل يُسربلُ كل شيء بهدوء وسكون ، فأخذوا بالنزول عت التلة وهو يتعجّبون من غفلتهم عن آيات الله العظيمة التي تفترس الكون وتصدمهم صباح مساء ، وهم يمرّون عليها كأنها لا شيء وينشغلون عنها بالسفاسف والتوافه ، ما أحوجهم للخروج من الزحمة والضوضاء إلى فسيح فضاء الله بآياته الزاخرة العظيمة !
ينزلون وهم فرحون بما وجدوا ، لم يروا الهلال لكنهم رأوا آيات التي تبثّ في النفوس والإيمان الطمأنينة والسكينة والتواضع .
يمرّون بجانب شجرة العجوز الحزينة ، يلفت نظرهم انطراحها على الأرض بسكون وهدوء ، دون أنفاس وبعينين مفتوحتين ، وأمامها تربض الحاجات القليلة التافهة التي قدّموها لها لم تلمسها ولم تنقص شيئاً ، كأنها حضرت إلى هذه الشجرة القصية لتلبي النداء الأخير ولتسلم الروح إلى بارئها بشكل حزين متفرد كما عاشت حزينة بائسة منفردة ...

يلمح نظرة الفزع في عيون الصغار رغم انتشار الظلام الخفيف ، فيشير لأمهم بأن تستمر معهم في النزول ، وتشعرهم بأن المسكينة نائمة نوماً عميقاً ، ويقترب هو منها ويقبض على معصمها بيد راجفة ، فيحس ببرودة الموت ووطأة السكون ، ولا يشعر بنبض الحياة وتدفقها ، يُقفل عينيها بهدوء ، ويصل إلى سمعه حفيف الأشجار وحركة الرياح كأنها آهة الحزين ، فيحسّ بشعور جارف من الحزن والكآبة ، ويقبّل يدها الخشنة ويبللها بدموع صادقة نزلت دون عناء ،

- هل هو البكاء على النفس !
- أم هو البكاء على الراحلين دوم مراسم ولا ضوضاء ولا مودّعن !
- أم هو البكاء على صفحة الحياة الصغيرة التي يتشبثّ بها الجميع بأظفارهم وكأنها الجنة والخلود !
- أم هو البكاء على كل ذلك !

ينزل التلة إنساناً جديداً وهو يتعجّب من ترتيبات القدر واللقاءات العجيبة من غير ميعاد ، زاد إيمانه وضعف انكبابه وسعاره على الدنيا وشهواتها وقد شهد الغروبين
غروب الشمس وغروب النفس ،
يلحق بصغاره وهو عازم على تنشئتهم نشأة صالحة تعلقهم بالله بشكل عميق وتربطهم بالناس بشكل بار رحيم .

يقرّر المرور على الدفاع المدني لاصطحابهم إلى الشجرة المرحومة للقيام باللازم ..

.. نهاية ..